في وقت تتجه فيه الأنظار نحو مستقبل الاقتصاد العالمي، يبرز التعاون بينالرياض وواشنطن في مجال الذكاء الاصطناعي كخطوة استراتيجية قد تغيّرالمعادلات الاقتصادية خلال العقد القادم. ومع تزايد الحديث عن التكنولوجياوقدرتها على إعادة تشكيل أسواق العمل والاستثمار والإنتاج، يتساءل كثيرونأين ستقف السعودية والولايات المتحدة من هذا التحول، وكيف ستؤثر شراكتهماعلى موازين القوى الاقتصادية. وفي ظل هذا المشهد، يظهر مفهوم ماهوالتداول ليس فقط في الأسواق المالية، بل أيضاً في تبادل الخبرات والتكنولوجياوالبيانات والمعرفة بين الدول الكبرى، وهو ما يجعل هذا التعاون أكثر عمقاً منمجرد صفقات تجارية أو نقل تقنيات.
شهدت السنوات الأخيرة تسارعاً لافتاً في خطط المملكة لتأسيس بنية قوية فيالذكاء الاصطناعي. فقد أطلقت السعودية شركة HUMAIN كذراع وطنييقود تطوير نماذج لغوية ومعمارية بيانات ضخمة، إضافة إلى العمل على توفيرمراكز بيانات قادرة على استيعاب أضخم عمليات الحوسبة اللازمة لنماذجالذكاء الاصطناعي التوليدي. المشروع لم يأتِ في فراغ، بل ضمن رؤية وطنيةواضحة تهدف إلى رقمنة الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد علىالنفط، بما يتوافق مع أهداف رؤية 2030.
وفي سياق متصل، بدأت الشركات الأمريكية الكبرى في تعزيز وجودها داخلالمملكة من خلال شراكات طويلة الأمد تشمل تبادل التكنولوجيا والاستثمار فيالبنية الرقمية. فقد عقدت شركات أمريكية رائدة اتفاقيات لتزويد المملكةبمعالجات متقدمة، إضافة إلى توفير حلول للحوسبة السحابية وبناء مراكزبيانات ضخمة قادرة على خدمة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. كما أسهمتاتفاقيات أخرى في دعم تدريب الكفاءات السعودية وتمكينها من اكتسابالخبرة في البرمجة وتحليل البيانات وتطوير الأنظمة الذكية.
هذا التعاون لا ينعكس فقط على تطوير التكنولوجيا داخل المملكة، بل يفتحالباب أمام تدفق استثمارات أجنبية رائدة، حيث أصبحت السعودية وجهة جاذبةلشركات التقنية العالمية الراغبة في توسيع حضورها الإقليمي. ومع بناء المزيدمن البنية التحتية التقنية، من المتوقع أن تشهد المملكة نمواً متسارعاً فيقطاعات مثل الصحة والتعليم والطاقة والنقل، باستخدام الذكاء الاصطناعيلتحسين الخدمات وتوقع المخاطر ورفع الإنتاجية.
على الصعيد العالمي، يمثل هذا التعاون نقطة تحول مهمة. إذ إن دخولالسعودية بثقلها الاقتصادي في مجال الذكاء الاصطناعي يخلق منافسةجديدة في الأسواق العالمية التي كانت محصورة بين الولايات المتحدة والصينوأوروبا. فالسعودية لا تكتفي بدور المستهلك للتكنولوجيا، بل تسعى لتكونمنتجاً ومطوّراً لها، وهو ما يعني إعادة توزيع النفوذ في سوق تكنولوجيتتجاوز قيمته تريليونات الدولارات في الأعوام القادمة.
كما يمكن لهذا التعاون أن يسهم في خفض تكاليف الخدمات السحابيةوالبيانات، خاصة أن المملكة تمتلك القدرة على توفير الطاقة بأسعار تنافسية، وهو عنصر جوهري في تشغيل مراكز البيانات العملاقة. وإذا نجحت الرياضفي بناء منظومة اقتصادية قائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، فقد تصبح مركزاً رئيسياً لاستضافة البيانات وتقديم خدمات الحوسبة عالمياً، مما يمنحها موقعاً تنافسياً إلى جانب دول متقدمة في المجال.
ومع أن الصورة تبدو واعدة، إلا أن الطريق مليء بالتحديات. فبناء اقتصادمعرفي يتطلب استقطاب الخبراء العالميين مع العمل بالتوازي على تأهيلالكوادر الوطنية لضمان نقل المعرفة بدلاً من استيرادها فقط. كما أن أمنالبيانات والتشريعات الخاصة بحمايتها تعتبر عناصر حساسة قد تحدد نجاحالمشروع من عدمه. ويتطلب الأمر أيضاً إطاراً أخلاقياً واضحاً لاستخدام الذكاءالاصطناعي، خاصة في القطاعات الصحية والتعليمية والإدارية.
إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد المفرط على التقنية الخارجية قد يؤخر تحقيقالسيادة الرقمية إذا لم يُدعّم بالتطوير المحلي والبحث العلمي. وعلى السعوديةالتفكير في إنشاء مراكز أبحاث متخصصة، وتمويل الابتكار الجامعي، وبناءمنظومة تشجع رواد الأعمال على تطوير حلول ذكاء اصطناعي محلية بدلاً منالاعتماد على الشركات الأجنبية فقط. فإذا تم دمج الاستثمار مع الابتكارالمحلي، ستزداد فرص السعودية في لعب دور قيادي عالمي في السنواتالقادمة.
من منظور الولايات المتحدة، يمثل التعاون مع السعودية فرصة للحفاظ علىنفوذها في سوق الذكاء الاصطناعي العالمي. فالتنافس مع الصين في مجالالتقنية بات واضحاً، والشراكات مع دول تمتلك قدرة مالية ضخمة مثل السعوديةتمنح واشنطن ميزة جيوسياسية مهمة. وفي المقابل، تستفيد السعودية منالخبرة الأمريكية وتضمن الوصول المباشر إلى أحدث التقنيات، مما يسرّع بناءقدراتها الذاتية.
عالمياً، يمكن لهذا التعاون أن يعيد تشكيل حركة الاستثمارات، ويوجه جزءاً كبيراً منها نحو الشرق الأوسط، خصوصاً أن المنطقة تشهد اهتماماً متزايداً بقطاع التكنولوجيا. وقد يؤدي ذلك لإنشاء ممرات اقتصادية جديدة تربط آسياوأفريقيا بأوروبا عبر السعودية، مما يعزز التجارة الرقمية وتطوير خدمات تعتمدعلى الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر.
ورغم جميع التحديات، فإن النتائج المحتملة تبدو واعدة. إذا استمرتالاستثمارات في التوسع، وتطورت التشريعات، وتم بناء منظومة تعليمية تدعمالتقنيات الحديثة، فقد تشهد السعودية تحولاً تاريخياً يجعلها مركزاً اقتصادياً وتكنولوجياً مؤثراً عالمياً. وفي سيناريو النجاح، لن يدخل العالم فقط في مرحلةجديدة من التطور الرقمي، بل سيشهد إعادة توزيع للثقل الاقتصادي حيثيصبح الذكاء الاصطناعي مورداً حقيقياً لا يقل أهمية عن النفط في القرنالماضي.